فصل: تفسير الآيات (47- 50):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (47- 50):

{قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)}
{قال تزرعون} أَيْ: ازرعوا {سبع سنين دأباً} متتابعةً، وهذا السَّبع تأويل البقرات السِّمان {فما حصدتم} ممَّا زرعتم {فذروه في سنبله} لأنَّه أبقى له وأبعد من الفساد {إلا قليلاً ممًّا تأكلون} فإنَّكم تدوسونه.
{ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد} مُجدباتٌ صعابٌ، وهذه تأويل البقرات العجاف {يأكلن} يُفنين ويُذهبن {مَا قدَّمتم لهن} من الحَبِّ {إلاَّ قليلاً ممَّا تحصنون} تحرزون وتدَّخرون.
{ثمَّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} يمطرون ويخصبون حتى يعصروا من السِّمسم الدُّهن، ومن العنب الخمر، ومن الزَّيتون الزَّيت، فرجع الرَّسول بتأويل الرُّؤيا إلى الملك، فعرف الملك أنَّ ذلك تأويلٌ صحيحٌ، فقال: {ائتوني} بالذي عبَّر رؤياي، فجاء الرَّسول يوسف، وقال: أجب الملك فقال للرسول: {ارجع إلى ربك} يعني: الملك {فسله} أن يسأل {ما بال النسوة} ما حالهنَّ وشأنهنَّ، ليعلم صحَّة براءتي ممَّا قُذفت به، وذلك أنَّ النِّسوة كنَّ قد عرفن براءته بإقرار امرأة العزيز عندهنَّ، وهو قولها: {ولقد رَاودْتُه عن نفسِهِ فاستعصم} فأحبَّ يوسف عليه السَّلام أن يُعلم الملك أنَّه حُبس ظلماً، وأنَّه بريءٌ ممَّا قُذِف به، فسأله أن يستعلم النِّسوة عن ذلك {إن ربي بكيدهنَّ} ما فعلن في شأني حين رأينني وما قلن لي {عليم} فدعا الملك النِّسوة.

.تفسير الآيات (51- 53):

{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)}
{ما خطبكنَّ} ما قصتكنَّ وما شأنكنَّ {إذ راودتنَّ يوسف عن نفسه} جمعهنَّ في المُراوَدة؛ لأنَّه لم يعلم مَنْ كانت المُراوِدة {قلن حاشَ لله} بَعُدَ يوسف عمَّا يُتَّهم به {ما علمنا عليه من سوء} من زنا، فلمَّا برَّأْنَهُ أقرَّت امرأة العزيز فقالت: {الآن حصحص الحق} أَيْ: بان ووضح، وذلك أنَّها خافت إنْ كذَّبت شهدت عليها النِّسوة فقالت: {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} في قوله: {هي راودتني عن نفسي} {ذلك} أَيْ: ما فعله يوسف من ردِّ الرَّسول إلى الملك {ليعلم} وزير الملك- وهو الذي اشتراه- {إني لم أخنه} في زوجته {بالغيب وأنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين} لا يرشد مَنْ خان أمانته، أَيْ: إنَّه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية من الله عزَّ وجلَّ، فلمَّا قال يوسف عليه السَّلام: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} قال جبريل عليه السَّلام: ولا حين هممت بها يوسف، فقال: {وما أبرئ نفسي} وما أُزكِّي نفسي {إنَّ النفس لأمَّارة بالسوء} بالقبيح وما لا يحبُّ الله {إلاَّ ما} مَنْ {رحم ربي} فعصمه.

.تفسير الآيات (54- 58):

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}
{وقال الملك ائتوني به} بيوسف {أستخلصه لنفسي} أجعله خالصاً لي لا يشركني فيه أحدٌ {فلمَّا كلَّمه} يوسف {قال إنك اليوم لدينا مكين} وجيهٌ ذو مكانةٍ {أمين} قد عرفنا أمانتك وبراءتك، ثمَّ سأله الملك أن يُعبِّر رؤياه شفاهاً، فأجابه يوسف بذلك، فقال له: ما ترى أن نصنع؟ قال: تجمع الطَّعام في السِّنين المخصبة ليأتيك الخلق فيمتارون منك بحكمك، فقال: مَنْ لي بهذا ومَنْ يجمعه؟ فقال يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض} على حفظها، وأراد بالأرض أرض مصر {إني حفيظٌ عليمٌ} كاتبٌ حاسبٌ.
{وكذلك} وكما أنعمنا عليه بالخلاص من السِّجن {مكنَّا ليوسف} أقدرناه على ما يريد {في الأرض} أرض مصر {يتبوأ منها حيث يشاء} هذا تفسير التَّمكين في الأرض {نصيب برحمتنا مَنْ نشاء} أتفضَّل على مَنْ أشاء برحمتي {ولا نضيع أجر المحسنين} ثواب المُوحِّدين.
{ولأجر الآخرة خير...} الآية. أَيْ: ما يعطي الله من ثواب الآخرة خيرٌ للمؤمنين، والمعنى: إنَّ ما يعطي الله تعالى يوسف في الآخرة خيرٌ ممَّا أعطاه في الدُّنيا، ثمَّ دخل أعوام القحط على النَّاس، فأصاب إخوة يوسف المجاعة، فأتوه مُمتارين، فذلك قوله: {وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون} لأنِّهم على زيِّ الملوك، وكان قد تقرَّر في أنفسهم هلاك يوسف. وقيل: لأنَّهم رأوه من وراء سترٍ.

.تفسير الآيات (59- 67):

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)}
{ولما جهزهم بجهازهم} يعني: حمل لكلِّ رجلٍ منهم بعيراً {قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم} يعني: بنيامين، وذلك أنَّه سألهم عن عددهم فأخبروه، وقالوا: خلَّفنا أحدنا عند أبينا، فقال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم. {ألا ترون أني أوفي الكيل} أُتمُّه من غير بخسٍ {وأنا خير المنزلين} وذلك لأن حين أنزلهم أحسن ضيافتهم، ثمَّ أوعدهم على ترك الإِتيان بالأخ بقوله: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون}.
{قالوا سنراود عنه أباه} نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا {وإنا لفاعلون} ما وعدناك من المراودة.
{وقال} يوسف {لفتيانه} لغلمانه: {اجعلوا بضاعتهم} التي أتوا بها لثمن الميرة، وكانت دارهم {في رحالهم} أوعيتهم {لعلَّهم يعرفونها} عساهم يعرفون أنَّها بضاعتهم بعينها {إذا انقلبوا إلى أهلهم} وفتحوا أوعيتهم {لعلهم يرجعون} عساهم يرجعون إذا عرفوا ذلك؛ لأنَّّهم لا يستحلُّون إمساكها.
{فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منّا الكيل} حُكم علينا بمنع الكيل بعد هذا إن لم نذهب بأخينا. يعنون قوله: {فلا كيل لكم عندي ولا تقربون}. {فأرسل معنا أخانا نكتل} نأخذ كيلنا.
{قال هل آمنكم عليه...} الآية، يقول: لا آمنكم على بنيامين إلاَّ كأمني على يوسف، يريد: إنَّه لم ينفعه ذلك الأمن، فإنَّهم خانوه، فهو- وإن أَمِنَهم في هذا- خاف خيانتهم أيضاً، ثمَّ قال: {فالله خير حافظاً}.
{ولما فتحوا متاعهم} ما حملوه من مصر {وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي} منك شيئاً تردُّنا به وتصرفنا إلى مصر {هذه بضاعتنا ردت إلينا} فنتصرَّف بها {ونميرُ أهلنا} نجلب إليهم الطَّعام {ونزداد كيل بعير} نزيد حِمْل بعيرٍ من الطَّعام، لأنَّه كان يُكال لكلِّ رجلٍ وِقْر بعير {ذلك كيلٌ يسير} متيسِّرٌ على مَنْ يكيل لنا لسخائه.
{قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله} حتى تحلفوا بالله {لَتَأْتُنَّني به إلاَّ أن يحاط بكم} إلا أن تموتوا كلُّكم {فلما آتَوْهُ موثقهم} عهدهم ويمينهم {قال} يعقوب عليه السَّلام: {الله على ما نقول وكيل} شهيد، فلمَّا أرادوا الخروج من عنده قال: {يا بني لا تدخلوا} مصر {من باب واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقة} خاف عليهم العين، فأمرهم بالتَّفرقة {وما أغني عنكم من الله من شيء} يعني: إنَّ الحذر لا يُغني ولا ينفع من القدر.

.تفسير الآيات (68- 74):

{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)}
{ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم} وذلك أنَّهم دخلوا مصر متفرِّقين من أربعة أبواب {ما كان يغني عنهم من الله من شيء} ما كان ذلك ليردَّ قضاءً قضاه الله سبحانه {إلاَّ حاجةً} لكن حاجةً. يعني: إنَّ ذلك الدّخول قضى حاجةً في نفس يعقوب عليه السَّلام، وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبوابٍ متفرِّقةٍ شفقةً عليهم {وإنه لذو علم لما علمناه} لذو يقينٍ ومعرفةٍ بالله سبحانه {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أنَّ يعقوب عليه السَّلام بهذه الصِّفة.
{ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه} ضمَّه إليه وأنزله عند نفسه {قال إني أنا أخوك} اعترف له بالنِّسب، وقال: لا تخبرهم بما ألقيت إليك {فلا تبتئس} فلا تحزن ولا تغتم {بما كانوا يعملون} من الحسد لنا، وصرف وجه أبينا عنا.
{فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية} وهو إناءٌ من ذهبٍ مرصَّعٌ بالجواهر {في رحل أخيه} بنيامين {ثمَّ أذَّنَ مؤذنٌ} نادى منادٍ {أيتها العير} الرُّفقة {إنكم لسارقون}.
{قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون}؟
{قالوا نفقد صواع الملك} يعني: السِّقاية {ولمن جاء به حمل بعير} أَيْ: من الطَّعام {وأنا به زعيم} كفيل.
{قالوا تالله لقد علمتم} حلفوا على أنَّهم يعلمون صلاحهم وتجنُّبهم الفساد، وذلك أنَّهم كانوا معروفين بأنَّهم لا يظلمون أحداً، ولا يرزأون شيئاً لأحد.
{قالوا فما جزاؤه} أَيْ: ما جزاء السَّارق {إن كنتم كاذبين} في قولكم: ما كنا سارقين.

.تفسير الآيات (75- 76):

{قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)}
{قالوا جزاؤه مَنْ وجد في رحله} وكانوا يستعبدون كلَّ سارقٍ بسرقته، فلذلك قالوا: جزاؤه مَنْ وجد في رحله أَيْ: جزاء السَّرق، مَنْ وجد في رحله المسروق {فهو جزاؤه} أَيْ: فالسَّرق جزاء السَّارق {كذلك نجزي الظالمين} أَيْ: إذا سرق سارقٌ اسْتُرِقَّ، فلمَّا أقرُّوا بهذا الحكم صُرف بهم إلى يوسف عليه السَّلام ليفتِّش أمتعتهم.
{فبدأ} يوسف {بأوعيتهم} وهي كلُّ ما استودع شيئاً من جرابٍ وجوالق ومِخْلاةٍ {قبل وعاء أخيه} نفياً للتُّهمة {ثمَّ استخرجها} يعني: السِّقاية {من وعاء أخيه كذلك كدنا} ألهمنا {ليوسف} أي: ألهمناه مثل ذلك الكيد، حتى ضممنا أخاه إليه {ما كان ليأخذ أخاه} ويستوجب ضمَّه إليه {في دين الملك} في حكمه وسيرته وعادته {إلاَّ} بمشيئة الله تعالى، وذلك أنَّ حكم الملك في السَّارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فلم يكن يوسف يتمكَّن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطُّفاً، حتى وجد السَّبيل إلى ذلك، وهو ما أجري على ألسنة إخوته أنَّ جزاء السَّارق الاسترقاق، {نرفع درجات مَنْ نشاء} بضروب الكرامات وأبواب العلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته في كلِّ شيء {وفوق كلِّ ذي علم عليم} يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه. فلمَّا خرج الصُّواع من رحل بنيامين.

.تفسير الآيات (77- 78):

{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)}
{قالوا} ليوسف {إن يسرق} الصُّواع {فقد سرق أخ له من قبل} يعنون: يوسف عليه السَّلام، وذلك أنَّه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرَّاً منهم، فيتصدَّق به في المجاعة، حتى فطن به إخوته {فأسرَّها يوسف في نفسه} أَيْ: أسرَّ الكلمة التي كانت جواب قولهم هذا {ولم يُبدها لهم} وهو أنَّه قال في نفسه: {أنتم شرٌّ مكاناً} عند الله بما صنعتم من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم {والله أعلم بما تصفون} أَيْ: قد علم أنَّ الذي تذكرونه كذبٌ.
{قالوا يا أيها العزيز إنَّ له أباً شيخاً كبيراً} في السِّنِّ {فخذ أحدنا مكانه} واحداً منَّا تستعبده بدله {إنا نراك من المحسنين} إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا.

.تفسير الآيات (80- 81):

{فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)}
{فلما استيأسوا} يئسوا {منه خلصوا نجياً} انفردوا متناجين في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم {قال كبيرهم} وهو روبيل، وكان أكبرهم سنَّاً: {ألم تعلموا أنَّ أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله} في حفظ الأخ وردِّه إليه {ومن قبل ما فرطتم في يوسف} {ما} زائدة، أَيْ: قصَّرتم في أمر يوسف وخنتموه فيه {فلن أبرح الأرض} لن أخرج من أرض مصر {حتى يأذن لي أبي} يبعث إليَّ أنَْ آتيه {أو يحكم الله لي} يقضي في أمري شيئاً {وهو خير الحاكمين} أعدلهم، وقال لإخوته: {ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إنَّ ابنك سرق} يعنون في ظاهر الأمر {وما شهدنا إلاَّ بما علمنا} لأنَّه وُجدت السَّرقة في رحله ونحن ننظر {وما كنا للغيب حافظين} ما كنا نحفظه إذا غاب عنا.